لقد أحسنت السلطة صُنعًا بالسماح للمظاهرة التي انطلقت مساء يوم الثلاثاء الماضي من دوار المنارة إلى مقر الرئيس في المقاطعة، تنديدًا بالقمع الذي تعرضت له مظاهرة يوم السبت التي نُظّمت ضد زيارة موفاز، حيث مُنِعَت من الوصول إلى المقاطعة بالرغم من تأجيل اللقاء، وأصرّ الشباب على التظاهر يوم الأحد وتعرضوا لقمع أكبر.
لقد وصلت المظاهرة إلى مقر الرئيس، وشارك فيها أضعاف المشاركين يومي السبت والأحد، ورددوا هتافاتهم ضد القمع، وطالبوا بالوحدة والمقاومة، وبإسقاط أوسلو والتنسيق الأمني.
لم يقتحم المتظاهرون المقاطعة، كما كان يتم الترويج لذلك لتبرير القمع، ولم يهتفوا أو يرفعوا شعاراتٍ تحريضيّة متطرفةً، ولم تحدث الفوضى التي كان سيحدثها القمع، ولم تظهر "الأجندات الخارجيّة"، ولم نر ما يدل على وجود يد لـ "دحلان" أو "فياض"، ولم تظهر علاقة المتظاهرين بالمؤامرة الأميركيّة والإسرائيليّة للتخلص من الرئيس "أبو مازن" واستبداله بشخص مستعد لقبول ما يرفضه.
ما حدث يوم الثلاثاء يدل على أنّ المشكلة لم تكن في المتظاهرين، بل في القمع الذي مُورِسَ ضدهم، والتشهير الذي تعرضوا له، وهو أسوأ من القمع بكثير.
حسنًا فعل الرئيس بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، وهذا أفضل من المرات السابقة التي شُكِّلَت فيها أو لم تُشكَّل لجانُ تحقيقٍ مستقلة، ولكنها لم تصل في كل الأحوال إلى شيء.
يجب الاعتراف أولًا أنّ قمعَ المتظاهرين ظاهرةٌ وليست مجرد حدث عابر، وكلنا يذكر ما حدث يوم انعقاد مؤتمر أنابوليس، والمفاوضات المباشرة، وما حدث في قاعة البروستانت، حيث قام 400 من رجال الأمن بمنع عقد مؤتمر ضد استئناف المفاوضات، كان يشارك فيه أربعة أعضاء من اللجنة التنفيذيّة وعشرات الشخصيات العامة، وما حدث في يوم الأرض، حين تم الاعتداء على مصطفى البرغوثي، حيث ضُرِب ضربًا مبرحًا ولم يتم محاسبة أحد، وما حدث ويحدث ضد مناصري "حماس" في الضفة ومناصري "فتح" وغيرهم في غزة.. مسلسل لا نهاية له.
أي إنّ ملامح ولادة نظام بوليسي قمعي ظهرت، وولدت بشكل أوضح من رحم الانقسام، تقوى حينًا وتتراجع حينًا آخر، ولكنها إذا لم يتم استئصالها ستهدد الوضع الفلسطيني برمته، وذلك في مرحلة الثورات وانهيار أنظمة الفساد والتبعيّة والاستبداد.
في هذا السياق، نأمل من لجنة التحقيق أن تكون على مستوى المهمة التي ألقيت عليها، ولا تفعل مثل بعض الكتاب والنشطاء السياسيين، الذين سارعوا قبل وبعضهم بعد قرار السماح للمظاهرة بالتوجه إلى مقر المقاطعة بعزف لحن السلطة عن المؤامرة والأجندات الخارجيّة التي تنظمها بعض المنظمات الأهليّة التي تصب في محاولات التخلص من الرئيس "أبو مازن"، أو عن النيات الحسنة أو السيئة التي يمكن أن تقود إلى الفوضى والفلتان الأمني.
وعلى اللجنة ألا تفعل مثل كتاب وصحافيين وسياسيين آخرين الذين يتمتعون بـ"حياد زائف"، من خلال الحديث عمّا حدث بأنه عراك بين المتظاهرين وأفراد الشرطة والأمن؛ أدى إلى إصابات من الجانبين، وإلى تصرفات غير مسؤولة من الطرفين (التخوين من المتظاهرين، والضرب والاعتقال والمنع من الشرطة والأمن).
كما على لجنة التحقيق أن تكون بمستوى المسؤولية الواقعة عليها، وأن تكون مستقلة فعلًا، وتنشد الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وأن تقوم بالتحقيق مع كافة الأطراف المعنية، وعلى رأسهم قادة الأجهزة الأمنية، وتطلب من الجميع وضع المعلومات والحقائق والوثائق، وتتخذ القرارات وترفع التوصيات الكفيلة بمحاسبة كل المعتدين، وخصوصًا الذين أصدروا الأوامر بالاعتداء على المتظاهرين وحرمانهم من الوصول إلى مقر الرئيس، وكأن المقاطعة منطقة عسكرية محرم الوصول إليها.
لا بد من الانطلاق من حقيقة أن من حق أي مجموعة أن تتظاهر وتعبر عن رأيها مهما كانت متطرفة أو معتدلة، بما في ذلك إن كان من رأيها حل السلطة، أو إسقاط الرئيس، أو أوسلو، أو إدانة النهج السائد والتحذير من خطورته وما أدى إليه، أو العكس، شرط أن يتم ذلك بطريقة سلميّة وقانونيّة.
ومن هنا، من المهم التأكيد على أن القانون لا يلزم من يريد تنظيم اجتماعات في قاعة مغلقة أن يحصل على ترخيص أو تقديم إشعار بذلك، ويلزم من يريد تنظيم مظاهرة إشعار الشرطة بذلك لتقوم بتأمين سلامتها.
سأل المسؤول: "طيّب، ماذا عن أفراد الشرطة والأمن الذين تعرضوا للضرب"، من المسؤول عن ضربهم؟، وعندما أجيب عن سؤاله بسؤال: ماذا ستفعل إذا كنت مشاركًا في مظاهرة ووجدت أشخاصًا بلباس مدني لا يعرّفون عن أنفسهم، أو أفراد من الشرطة يقومون بضربك والاعتداء عليك والتشهير بك، أجاب: أقوم بالدفاع عن نفسي.
هذا ما حصل بالضبط، وهو أن المتظاهرين دافعوا عن أنفسهم، وفي أثناء هذا الدفاع تعرض بعض أفراد الشرطة والأمن لبعض من الضربات التي لا تقارن بالضرب المبرح الذي تعرض له المتظاهرون، ولا يكفي تبرير ذهاب بعض أفراد الشرطة إلى المستشفى لتسجيل واقعة الضرب لاستخدامها ضد المتظاهرين في أي تحقيق قادم.
إن التحقيق يجب أن يشمل، لماذا تخضع السلطة للضغوط وتستعد للقاء أمثال المجرم موفاز بالرغم من أنها أعلنت أنها لن تستأنف المفاوضات إلا بعد وقف الاستيطان وجملة من الشروط الأخرى؟
ولماذا بدت مرتبكة بين من يؤيد حدوث اللقاء وبين من ينفيه، حيث نفى صائب عريقات في اليوم الأول حدوث اللقاء، وأكده في اليوم الثاني، مبررًا ما صرح به في اليوم الأول بأنه ليس ناطقا باسم الرئيس ولا يعرف جدول أعماله، بالرغم من أنه يتصرف في كل يوم على هذا الأساس، أثناء برنامجه اليومي في صوت فلسطين. ولكن هذه قصة أخرى.
كان بمقدور السلطة أن تتخذ قرارات قبل الشروع في التحقيق، مثل توقيف عن العمل، لحين استكمال التحقيق، لجميع الأفراد والمسؤولين الشرطيين والأمنيين الذين قاموا بالضرب والاعتداء على المتظاهرين، سواء أثناء المظاهرة أو في مقر الشرطة.
كما كان بمقدورها أن تعتذر عما حدث، وتتعهد بعدم تكراره، خصوصًا أنه لا يستطيع أحد أن يحمل أفراد الشرطة والأمن المسؤوليّة، فهناك من أصدر أوامر لهم، وما حدث بعيد عن مقر الرئاسة مئات الأمتار، ومن لم يعرف بما حدث يوم السبت أثناء حدوثه، عرف عنه في المساء من خلال وسائل الإعلام والإنترنت والفيس بوك، وبالرغم من ذلك تكرر يوم الأحد ما حدث يوم السبت بشكل أسوأ ولمدة ساعات.
لقد سمحت الشرطة سابقًا لمتظاهرين ضد المفاوضات المباشرة أن يتظاهروا أكثر من مرة أمام مقر المقاطعة ولم يحصل شيئًا، لماذا تبدو السلطة أكثر وأكثر مرتبكة، ولا تعرف ما يدور في بلادها بالرغم من الموازنة الضخمة المخصصة للأمن، ومن عشرات الآلاف من أفراد الأجهزة الأمنيّة، الذي من المفترض أنهم يحصون النمل، و"البيضة ومين باضها"، وعند المحك نسمع أسطوانة المؤامرة والأجندات الخارجيّة واستدراج السلطة نحو الفوضى، التي لم تقنع سوى الأبواق الجاهزة لعزف أي لحن تعزفه السلطة.
لا يكفي أن يلتقي الرئيس بالنشطاء والشباب، وهذا أمر يجب أن يحدث معهم ومع غيرهم بشكل منتظم، حتى يستمع الرئيس إلى صوت الشعب وأفكاره واقتراحاته وحلوله.
لا يكفي أنّ السلطة تراجعت عمليًّا عن القمع وسمحت للمظاهرة أن تصل إلى مقر الرئاسة، لأن هذا قد يُفسر كنتيجة لخوفها من تدهور الموقف احتجاجًا على القمع، وخصوصًا بعد تضاعف أعداد المشاركين الذين مثّلوا مختلف مناطق الضفة وفلسطينيي الداخل، وسبقها مظاهرات تضامنيّة في عمان ودمشق، وشارك في مظاهرة يوم الثلاثاء أشخاص نوعيون، بعضهم لم يشارك بأي مظاهرة في حياته، وذلك بعد المناظر البشعة عن القمع ضد مظاهرة لم تصل أعدادها في اليوم الأول إلى 200 شخص، نصفهم من أفراد الأمن بلباس مدني، اندسوا بين المتظاهرين لقمعهم واعتقالهم دون أن يعرّفوا عن هوياتهم، وهذه مسألة يجب حسمها مرة واحدة وإلى الأبد.
إذا كان الرئيس يتعرض لضغوط حتى يستأنف المفاوضات دون شروط، أي وفقًا للشروط الإسرائيليّة، وهو يتعرض فعلًا، وإذا كان يتعرض لمؤامرة للتخلص منه إذا لم يخضع، ويمكن أن تحاول بعض العناصر المحليّة الراغبة في الاشتراك أو التواطؤ الاستفادة من هذه المؤامرة؛ فالحل لا يكون بالقمع وإلقاء الاتهامات جُزافًا، وإنما بالعودة إلى الشعب وقواه الحيّة، لأن الشعب كان دائمًا معطاءً وحاميًا لقيادته وليس متآمرًا عليها.
إن ما يحدث من تحركات شبابيّة وشعبيّة له أسباب وجذور، ولا يمكن أن يتوقف دون معالجة هذه الأسباب، التي أهمها غياب المشروع الوطني، والمؤسسة الجامعة، والقيادة صاحبة الخيار المنسجم والرؤية الواضحة الواثقة بنفسها والقادرة على توحيد الشعب وخوض المواجهة مهما كان الثمن.
فالحريّة، خصوصًا حريّة الأوطان، لا تُوهب وإنما تنتزع، والإدارة الأميركيّة لن تخدعنا بالدفاع عن حريّة الأفراد وتجاهل حريّة الوطن.
يكفي أن نقول إن المتظاهرين كانوا يهتفون للوحدة الوطنيّة ولعرفات ولياسين وسعدات والشقاقي، ولا ينظرون إلى ما يفرق وإنما إلى ما يوحد الفلسطينيين، وهو الاحتلال الذي يستهدف الجميع.